الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)} قوله تعالى: {والذريات ذَرْواً} أقسم الله عز وجل، بالرياح إذا أذرت ذرواً، وروى يعلى بن عطاء، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: الرياح ثمانية: أربعة منها رحمة، وأربعة منها عذاب، فالرحمة منها: الناشرات، والمبشرات، والذاريات، والمرسلات، وأما العذاب: العاصف والقاصف والصرصر والعقيم، وعن أبي الطفيل قال: شهدت عليّاً رضي الله عنه وهو يخطب ويقول: سلوني عن كتاب الله عز وجل، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أنزلت بالليل، أم بالنهار فسأله ابن الكواء فقال له: ما {والذريات ذَرْواً} قال: الرياح. قال {فالحاملات وِقْراً}؟ قال: السحاب قال: فما {فالجاريات يُسْراً} قال: السفن جرت بالتسيير على الماء. {فالمقسمات أَمْراً}؟ قال: الملائكة. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: والذاريات الرياح، قال: ما ذرت الريح، فالحاملات وقرأً يعني: السحاب الثقال، الموقرة من الماء، فالجاريات يسراً، يعني: السفن جرت بالتسيير على الماء، فالمقسمات أمراً، يعني: أربعة من الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، لكل واحد منهم أمر مقسوم، وهم المدبرات أمراً، أقسم الله تعالى بهذه الآية: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ} يعني: الذي توعدون من قيام الساعة {لصادق} يعني: لكائن ويقال: في الآية مضمر، فأقسم الله تعالى برب الذاريات، يعني: ورب الرياح الذاريات، ورب السحاب الحاملات، ورب السفن الجاريات، ورب الملائكة المقسمات، إنما توعدون لصادق. {وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ} يعني: المجازات على أعمالهم لواقع، ثم بين في آخر الآية ما لكل فريق من الجزاء، فبين جزاء أهل النار أنهم يفتنون، وبين جزاء المتقين أنهم في جنات وعيون. ثم قال عز وجل: {والسماء ذَاتِ الحبك} أقسم بالسماء ذات الحسن والجمال، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه يعني: ذات الخلق الحسن. وقال مجاهد: المتقن من البنيان، يعني: البناء المحكم. ويقال: الحبك يعني: ذات الطرائق ويقال للماء القائم إذا ضربته الريح، فصارت فيه الطرائق له حبك، وكذلك الرمل إذا هبت عليه الريح، فرأيت فيه كالطرائق فبذلك حبك. قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} يعني: متناقض مرة قالوا ساحراً، ومرة قالوا مجنون، والساحر عندهم من كان عالماً غاية في العلم، والمجنون من كان جاحداً غاية في الجهل، فتحيروا، فقالوا: مرة مجنون، ومرة ساحر، ويقال: إنكم لفي قول مختلف، يعني: مصدقاً ومكذباً، يعني: يؤمن به بعضهم. ويكفر به بعضهم. ثم قال عز وجل: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} يعني: يصرف عنه من صرف، وذلك إن أهل مكة أقاموا رجالاً على عقاب مكة، يصرفون الناس، فمنهم من يأخذ بقولهم ويرجع، ومنهم من لا يرجع، فقال: يصرف عنه من قد صرفه الله عن الإيمان وخذله، ويقال: يصرف عنه من قد صرفه يوم الميثاق، ويقال يصرف عنه من كان مخذولاً لم يكن من أهل الإيمان.
{الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} ثم قال عز وجل: {قُتِلَ الخرصون} يعني: لعن الكاذبون {الذين هُمْ فِى غَمْرَةٍ ساهون} يعني: في جهالة وعمي وغفلة عن أمر الآخرة، ساهون يعني: لاهين عن الإيمان، وعن أمر الله تعالى {يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين} يعني: أي أوان يوم الحساب استهزاء منهم به، فأخبر الله تعالى عن ذلك اليوم فقال: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ} يعني: بالنار يحرقون، ويعذبون. ويقول لهم الخزنة: {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هذا الذى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} يعني: هذا العذاب الذي كنتم به تستهزئون. يعني: تستعجلون على وجه الاستهزاء. ثم بيّن ثواب المتقين فقال عز وجل: {إِنَّ المتقين فِى جنات وَعُيُونٍ} يعني: في بساتين، وأنهار. قوله تعالى: {ءاخِذِينَ مَا ءاتاهم رَبُّهُمْ} يعني: قابضين ما أعطاهم ربهم من الثواب {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ} في الدنيا {مُحْسِنِينَ} بأعمالهم. قرأ عاصم: {ءاخِذِينَ} نصب على الحال، ومعنى {فِى جنات وَعُيُونٍ} في حال آخذين ما آتاهم ربهم. ثم قال: {كَانُواْ قَلِيلاً مّن اليل مَا يَهْجَعُونَ} يعني: قليل من الليل ما ينامون. وقال بعضهم: كانوا قليلاً. ثم الكلام يعني: مثل هؤلاء المتقين {كَانُواْ قَلِيلاً}. ثم أخبر عن أعمالهم، فقال: {مّن اليل مَا يَهْجَعُونَ} يعني: لا ينامون بالليل، كقوله: {وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وقياما} [الفرقان: 64]. وقال الضحاك: كانوا من النائمين. وقال الحسن: لا ينامون إلا قليلاً. وقال الربيع بن أنس: لا ينامون بالليل إلا قليلاً {وبالاسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} يعني: يصلون عند السحر. ويقال: يصلون بالليل، ويستغفرون عند السحر عن ذنوبهم {وَفِى أموالهم حَقٌّ} يعني: نصيب للفقراء {لَّلسَّائِلِ والمحروم} السائل: المسكين الذي يسأل الناس. والمحروم المتعفف الذي لا يسأل الناس. ويقال: المحروم المحترف الذي لا يبلغ عيشه. وقال الشعبي: أعياني أن أعلم من المحروم. روى سفيان عن ابن إسحاق، عن قيس، قال: سألت ابن عباس: من السائل والمحروم؟ فقال: السائل: الذي يسأل. والمحروم: المحارب الذي ليس له سهم في الغنيمة، وهكذا قال إبراهيم النخعي، ومجاهد، والربيع بن أنس. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: المحروم: الفقير الذي إذا خرج إلى الناس استعف، ولم يعرف مكانه، ولا يسأل الناس فيعطونه. وقال الزجاج: المحروم الذي لا ينمو له مال. ويقال: هي بالفارسية بي دولة يعني: لا إقبال له. قوله: {وَفِى الارض ءايات لّلْمُوقِنِينَ} يعني: فيمن أهلك قبلهم، لهم عبرة. ويقال: فيها علامة وحدانية الله تعالى، كأنه قال جعلت جميع الأشياء مرآتك، لتنظر إليها، وترى ما فيها، ومراد النظر في المرآة، رؤية من لم يَرَ فكأنه قال: وانظر في آيات صنعي، لتعلم أفي صانع كمل الأشياء؟ فإذا نظرت إلى النقش، والنقش يدل إلى نقاشه وإذا نظرت إلى النفس وعجائب تركيبها يدل على خالقها، وإذا نظرت في الأرض فمختلف الأشياء عليها يدل إلى ربها، وهي البحار، والجبال، والأنهار، والأثمار. {وَفِى أَنفُسِكُمْ} يعني: وعلامة وحدانيته في أنفسكم {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} يعني: تتفكرون في خلق أنفسكم، كيف خلقكم وهو قادر على أن يبعثكم. قوله عز وجل: {وَفِى السماء رِزْقُكُمْ} يعني: من السماء يأتي سبب رزقكم، وهو المطر. ويقال: وعلى خالق السماء رزقكم {وَمَا تُوعَدُونَ} يعني: ما توعدون من الثواب، والعقاب، والخير، والشر. قال مجاهد: {وَمَا تُوعَدُونَ} يعني: الجنة، والنار. وهكذا قال الضحاك.
{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)} ثم قال عز وجل: {فَوَرَبّ السماء والارض} أقسم الرب بنفسه {إِنَّهُ لَحَقٌّ} يعني: ما قسمت من الرزق لكائن {مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} يعني: كما تقولون لا إله إلا الله، أو يعني: كما أن قولكم لا إله إلا الله حق، كذلك قولي سأرزقكم حق. ويقال: معناه كما أن الشهادة واجبة عليكم، فكذلك رزقكم واجب علي. ويقال: معناه هو الذي ذكر في أمر الآيات، والرزق حق. يعين: صدق مثل ما أنكم تنطقون. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أَبَى ابْنُ آدَمَ أنْ يُصَدِّقَ رَبَّهُ حَتَّى أقْسَمَ لَهُ، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ». قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم، في رواية أبي بكر {مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} بضم اللام. والباقون: بالنصب. فمن قرأ بالضم، فهو نعت بالحق، وصفه له. ومن قرأ بالنصب، فهو على التوكيد على معنى أنه لحق حقاً مثل نطقكم. قوله عز وجل: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبراهيم المكرمين} يعني: جاء جبريل مع أحد عشر ملكاً عليهم السلام المكرمين، أكرمهم الله تعالى، وقال: أكرمهم إبراهيم، وأحسن عليهم القيام، {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا} فسلموا عليه، فرد عليهم السلام {قَالَ سلام} قرأ حمزة، والكسائي، قال: سلم أي: أمري سلم. والباقون {سلام} أي: أمري {سلام} أي: صلح. ثم قال: {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} يعني: أنكرهم، ولم يعرفهم. وقال كانوا لا يسلمون في ذلك الوقت، فلما سمع منهم السلام أَنْكَرَهُمْ. {فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ} يعني: عهد إلى أهله. ويقال: عدل، ومال إلى أهله. ويقال: عدل من حيث لا يعلمون لأي شيء عدل. يقال: راغ فلان عنا، إذا عدل عنهم من حيث لا يعلمون. {فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ} قال بعضهم: كان لبن البقرة كله سمناً، فلهذا كان العجل سميناً {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} فلم يأكلوا {فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} فقالوا: نحن لا نأكل بغير ثمن. فقال إبراهيم: كلوا، فاعطوا الثمن. قالوا: وما ثمنه؟ فقال: إذا أكلتم، فقولوا بسم الله. وإذا فرغتم، فقولوا: الحمد لله، فتعجبت الملائكة عليهم السلام لقوله، فلما رآهم لا يأكلون {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} يعني: أظهر في نفسه خيفة. ويقال: ملأ عنهم خيفة، فلما رأوه يخاف {قَالُواْ لاَ تَخَفْ} منا يعني: لا تخشى منا {وَبَشَّرُوهُ بغلام عَلَيمٍ} يعني: إسحاق {فَأَقْبَلَتِ امرأته فِى صَرَّةٍ} يعني: أخذت امرأته في صيحة {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} يعني: ضربت بيديها، خديها تعجباً {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} يعني: عجوزاً عاقراً لم تلد قط، كيف يكون لها ولد؟ فقال لها جبريل: {قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ} يكون لك ولد {هُوَ الحكيم} في أمره. حكم بالولد بعد الكبر {العليم} عليم بخلقه. ويقال: عليم بوقت الولادة. فلما رآهم أنهم الملائكة {قَالَ} لهم {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون} يعني: ما أمركم، وما شأنكم، ولماذا جئتم أيها المرسلون؟ {قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ} يعني: قال جبريل أرسلنا الله تعالى {إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} يعني: قوم كفار مشركين {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ} يعني: لكي نرسل عليهم {حِجَارَةً مّن طِينٍ} مطبوخ، كما يطبخ الآجر {مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} يعني: معلمة. وقال: مخططة بسواد، وحمرة. ويقال: مكتوب على كل واحد اسم صاحب الذي يصيبه. ثم قال: {عِندَ رَبّكَ} يعني: جاءت الحجارة من عند ربك للمشركين، فاغتم إبراهيم لأجل لوط. قال الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا} أي: في قريات لوط {مِنَ المؤمنين} يعني: من المصدقين {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ المسلمين} يعني: غير بيت لوط. قوله عز وجل: {وَتَرَكْنَا فِيهَا ءايَةً} يعني: أبقينا في قريات لوط آية. يعني: عبرة في هلاكهم من بعدهم. ثم قال: {لّلَّذِينَ يَخَافُونَ العذاب الاليم} يعني: العذاب الشديد.
{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)} ثم قال: {وَفِى موسى} عطف على قوله {وفى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] {وَفِى موسى} {إِذْ أرسلناه إلى فِرْعَوْنَ بسلطان مُّبِينٍ} يعني: حجة بينة، وهي اليد، والعصا {فتولى بِرُكْنِهِ} يعني: أعرض عنه فرعون بجموعه. يعني: مع جموعه وجنوده. ويقال: {فتولى بِرُكْنِهِ} يعني: أعرض بجانبه {وَقَالَ ساحر أَوْ مَجْنُونٌ فأخذناه وَجُنُودَهُ} يعني: عاقبناه، وجموعه {فنبذناهم فِى اليم} قال الكلبي يعني: أغرقناهم في البحر وقال مقاتل يعني: في النيل {وَهُوَ مُلِيمٌ} يعني: يلوم نفسه، ويلومه الناس. وقال: {مُلِيمٌ} أي: مذنب. وقال أهل اللغة: ألام الرجل، إذا أتى بذنب يلام عليه. ثم قال: {وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم} يعني: سلطنا عليهم الريح الشديد، وإنما سميت عقيماً، لأنها لا تأتي على شيء إلا جعلته كالرميم لا خير فيه. ويقال: سميت عقيماً لأنها لا تلقح الأشجار، ولا تثير السحاب، وهي الدبور. وروى شهر بن حوشب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما أنزل الله قطرة من ماء إلا بمثقال، ولا أنزل سفرة من ريح إلا بمكيال، إلا قوم نوح طغى على خزانة الماء، فلم يكن لهم عليه سبيل، وعتت الريح يوم عاد على خزانها، فلم يكن لهم عليها سبيل وروى عكرمة عن ابن عباس قال: العقيم الذي لا منفعة لها. ثم قال: {مَا تَذَرُ مِن شَئ} يعني: ما تترك من شيء هو لهم، ولا منهم، {أَتتَ عَلَيْهِم إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم} يعني: مرت عليه إلا جعلته كالرماد. ويقال: الرميم: الورق الجاف، المتحطم، مثل الهشيم المحتظر، كما قال كهشيم المحتظر، بعد ما كانوا كنخل متقصر. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما أرسل على عاد من الريح، إلا مثل خاتمي هذا. يعني: إن الريح العقيم تحت الأرض، فأخرج منها مثل ما يخرج من ثقب الخاتم، فأهلكهم. ثم قال: {وَفِى ثَمُودَ} يعني: قوم صالح {إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ} يعني: قال لهم نبيهم صالح عليه السلام عيشوا إلى منتهى آجالكم، ولا تعصوا أمر الله {فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ} يعني: تركوا طاعة ربهم {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} يعني: العذاب. قرأ الكسائي: {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} بغير ألف، وجزم العين. والباقون: بألف. وهي الصيحة التي أهلكتهم بالصعقة، قوله من قولك: صعقتهم الصاعقة. يعني: أهلكتهم. وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قرأ صعقة مثل الكسائي. {وَهُمْ يَنظُرُونَ} يعني: ظهرت النار من تحت أرجلهم، وهم يرونها بأعينهم. ويقال: سمعوا الصيحة، وهم ينظرون متحيرون. {فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ} يعني: ما استطاعوا أن يقوموا لعذاب الله تعالى، حتى أهلكوا. {وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ} يعني: ممتنعين من العذاب. ثم قال: {وَقَوْمَ نُوحٍ} وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وقوم نوح: بكسر الميم. يعني: في قوم نوح كما قال: وفي ثمود. والباقون: بالنصب. يعني: وأهلكنا قوم نوح. ويقال: معناه فأخذناه، وأخذنا {مِن قَبْلُ} هؤلاء الذين سميناهم {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين} يعني: قوم نوح من قَبْل. يعني: عاصين. قوله عز وجل: {والسماء بنيناها بِأَيْدٍ} يعني: خلقناها بقوة، وقدرة {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} يعني: نحن قادرون على أن نوسعها كما نريد. ويقال: {والسماء} صار نصباً لنزع الخافض. ومعناه و{وَهُوَ الذى فِى السمآء إله وَفِى الارض إله وَهُوَ الحكيم العليم} [الزخرف: 84] آية. ثم قال: {والارض فرشناها} يعني: وفي الأرض آية، بسطناها مسيرة خمسمائة عام من تحت الكعبة {فَنِعْمَ الماهدون} يعني: نعم الماهدون نحن. ويقال: في قوله: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} يعني: نحن جعلنا بينهما، وبين الأرض سعة. ثم قال عز وجل: {وَمِن كُلّ شَئ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} يعني: صنفين، الذكر والأنثى، والأحمر والأبيض، والليل والنهار، والدنيا والآخرة، والشمس والقمر، والشتاء والصيف. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} يعني: تتعظون فيما خلق الله، فتوحدوه. قوله عز وجل: {فَفِرُّواْ إِلَى الله} يعني: توبوا إلى الله من ذنوبكم. ويقال: معناه {فَفِرُّواْ} من الله {إِلَى الله} أو {فَفِرُّواْ} من عذاب الله، إلى رحمة الله، أو {فَفِرُّواْ} من معصيته، إلى طاعته. ومن الذنوب إلى التوبة. {إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} يعني: مخوفاً من عذاب الله تعالى بالنار {وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} يعني: لا تقولوا له شريكاً، وولداً {إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} يعني: فإن فعلتم، فإني لكم مخوف من عذابه، فلم يقبلوا قوله، وقالوا: هذا {ساحر أَوْ مَجْنُونٌ}. يقول الله تعالى تعزية لنبيه صلى الله عليه وسلم: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مّن رَّسُولٍ} يعني: هكذا ما أتى في الأمم الخالية من رسول، {إِلاَّ قَالُواْ ساحر أَوْ مَجْنُونٌ} كقول كفار مكة للنبي صلى الله عليه وسلم {أَتَوَاصَوْاْ بِهِ} يعني: توافقوا، وتواطؤوا فيما بينهم. وأوصى الأول الآخر أن يقولوا ذلك. ويقال: توافقوا، وتواطؤوا به كل قوم، وجعلوا كلمتهم واحدة أن يقولوا {ساحر أَوْ مَجْنُونٌ}. قال الله عز وجل: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغون} يعني: عاتين في معصية الله تعالى.
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)} ثم قال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} يعني: فأعرض عنهم يا محمد، بعد ما بلغت الرسالة، وأعذرت، {فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ} يعني: لا تلام على ذلك، لأنك قد فعلت ما عليك {وَذَكَرَ} يعني: عظ أصحابك بالقرآن {فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} يعني: المصدقين تنفعهم العظة. ويقال: فعظ أهل مكة، فإن الذكرى تنفع المؤمنين. يعني: من قدر لهم الإيمان. ثم قال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} يعني: ما خلقتهم، إلا أمرتهم بالعبادة، فلو أنهم خلقوا للعبادة لما عصوا طرفة عين. وقال مجاهد: يعني ما خلقتهم إلا لآمرهم، وأنهاهم. ويقال: {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} يعني: إلا ليوحدون، وهم المؤمنون، وهم خلقوا للتوحيد والعبادة، وخلق بعضهم لجهنم، كما قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجن والإنس لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون} [الأعراف: 179] فقد خلق كل صنف للأمر، والنهي الذي يصلح له. ثم قال: {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ} يعني: ما خلقتهم، لأن يرزقوا أنفسهم {وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} يعني: لا أكلفهم أن يطعموا أحداً من خلقي. وأصل هذا أن الخلق عباد الله، وعياله. فمن أطعم عيال رجل ورزقهم، فقد رزقه إذا كان رزقهم عليه. ثم قال: {إِنَّ الله هُوَ الرزاق} يعني: {الرزاق} لجميع خلقه {ذُو القوة المتين} يعني: {ذُو القوة} على أعدائه، الشديد العقوبة لهم، والمتين في اللغة: الشديد القوي قرأَ الأعمش: {ذُو القوة المتين} بكسر النون، جعله من نعت القوة. وقراءة العامة بالضم، ومعناه: {إِنَّ الله هُوَ الرزاق} وهو {ذُو القوة المتين}. قوله عز وجل: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} يعني: أشركوا وهم مشركو مكة {ذَنُوباً} يعني: نصيباً من العذاب {مّثْلَ ذَنُوبِ أصحابهم} يعني: مثل نصيب أصحاب من عذاب الذين مضوا، وأصل الذنوب في اللغة هو الدلو الكبير، فكيف عنه، لأنه تتابع. يعني: مثل عذاب الذين أهلكوا نحو قوم عاد، وثمود، وغيرهم. {فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ} يعني: بالعذاب، لأن النضر بن الحارث كان يستعجل بالعذاب، فأمهله إلى يوم بدر، ثم قتل في ذلك اليوم، وصار إلى النار. قوله عز وجل: {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذى يُوعَدُونَ} يعني: من عذاب يوم القيامة. والويل: الشدة من العذاب. يقال: الويل وادٍ في جهنم.
{وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)} قوله تعالى: {والطور} أقسم الله تعالى بالجبل وكل جبل فهو طور بلغة النبط. ويقال: بلغة السريانية. ولكن عني به الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام بمدين. ثم قال: {وكتاب مُّسْطُورٍ} يعني: في اللوح المحفوظ. ويقال: أعمال بني آدم {فِى رَقّ مَّنْشُورٍ} يعني: في صحيفة منشورة، كما قال: {وَكُلَّ إنسان ألزمناه طائره فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُوراً} [الإسراء: 13] يعني: مفتوحاً يقرؤونه. ويقال: {كِتَابٌ *** مُّسْطُورٍ} يعني: القرآن. {فِى رَقّ مَّنْشُورٍ} يعني: المصاحف. ويقال: في اللوح المحفوظ. ثم قال: {والبيت المعمور} وهو في السماء السابعة. ويقال: في السماء السادسة ويقال: في السماء الرابعة. وروى وكيع بإسناده عن علي، وابن عباس في قوله: {والبيت المعمور} قالا: هو بيت في السماء حيال الكعبة، يزوره كل يوم سبعون ألف ملك، ولا يعودون إليه إلى يوم القيامة. قال بعضهم: بناه الملائكة قبل أن يخلق آدم عليه السلام وقال بعضهم: هو البيت الذي بناه آدم بمكة، فرفعه الله تعالى في أيام الطوفان إلى السماء بحيال الكعبة. وقال بعضهم: أنزل الله بيتاً من ياقوتة في زمان آدم عليه السلام ووضع بمكة، فكان آدم يطوف به وذريته من بعده إلى زمن الطوفان، فرفع إلى السماء، وهو {البيت * المعمور} طوله كما بين السماء والأرض. ثم قال: {والسقف المرفوع} يعني: السماء المرتفعة من الأرض مقدار خمسمائة عام {والبحر المسجور} يعني: البحر الممتلئ تحت العرش، وهو بحر مكفوف. يقال له: الحيوان يحمي الله به الموتى يوم القيامة، فأقسم الله تعالى بهذه الأشياء. ويقال: أقسم بخالق هذه الأشياء {إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ} يعني: العذاب الذي أوقع الكفار فهو كائن {مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ} يعني: لا يقدر أحد أن يرفع عنهم العذاب. ثم بيّن أن ذلك العذاب في أي يوم يكون فقال: {يَوْمَ تَمُورُ السماء مَوْراً} يعني: تدور السماء بأهلها دوراً، وتموج بعضهم في بعض من الخوف. صار اليوم نصباً لنزع الخافض. ومعناه: أن عذاب ربك لواقع في {يَوْمَ تَمُورُ السماء مَوْراً} يعني: في يوم القيامة {وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً} يعني: {***تسير} على وجه الأرض {الجبال سَيْراً} مثل السحاب حتى تستوي بالأرض {فَوَيْلٌ} الشدة من العذاب {يَوْمَئِذٍ} يعني: يوم القيامة {لّلْمُكَذّبِينَ} بيوم القيامة. ثم نعتهم فقال: {الذين هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} يعني: في باطل يلهون، ويستهزئون. قوله عز وجل: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} يعني: تدفعهم خزنة جهنم. ويقال: {يَدَّعُونَ} يعني: يزعجون إليها إزعاجاً شديداً، ويدفعون دفعاً عنيفاً. ومنه قوله تعالى: {فَذَلِكَ الذى يَدُعُّ اليتيم} [الماعون: 2] أي: يدفع عما يجب. ويقال: دعاً يعني: دفعاً على وجوههم يجرون، فإذا دنوا منها، قالت لهم الخزنة: {هذه النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ} يعني: لم تصدقوا بها، ولم تأمنوا بها في الدنيا. {أَفَسِحْرٌ هذا} العذاب الذي ترون لأنفسكم، لأنكم قلتم في الدنيا للرسول ساحراً، ومجنون. {أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ} النار. ويقال: بل أنتم لا تعقلون. ثم قال لهم: {اصلوها} يعني: ادخلوا فيها {فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ} يعني: فإن صبرتم، أو لم تصبروا، فهو {سَوَاء عَلَيْكُمْ} اللفظ لفظ الأمر، المراد به الخبر. يعني: إن صبرتم أو لم تصبروا، فلا تنجون منها أبداً {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من الكفر والتكذيب.
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)} ثم بيّن حال المتقين فقال: {إِنَّ المتقين فِى جنات} يعني: الذين يتقون الشرك، والفواحش في بساتين {وَنَعِيمٍ فاكهين} يعني: معجبين. ويقال: ناعمين. ويقال: فرحين. {بِمَا ءاتاهم رَبُّهُمْ} في الجنة من الكرامة {ووقاهم رَبُّهُمْ عَذَابَ الجحيم} يعني: دفع عنهم عذاب النار. ويقول لهم الخزنة: {كُلُواْ واشربوا} يعني: كلوا من ألوان الطعام، والثمار، واشربوا من ألوان الشراب، {هَنِيئَاً} يعني: لا داء، ولا غائلة فيه، ولا يخاف في الأكل، والشرب، من الآفات ما يكون في الدنيا، {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} يعني: هذا الثواب لأعمالكم التي عملتم في الدنيا. ثم قال: {مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ} يعني: نائمين على سرر {مَصْفُوفَةٌ} قد صف بعضها إلى بعض، فكانوا على سرر، وكل من كان، اشتاق إلى صديقه يلتقيان. قوله تعالى: {وزوجناهم بِحُورٍ عِينٍ} يعني: بيض الوجوه. العين: حسان الأعين. قوله تعالى: {والذين ءامَنُواْ} يعني: صدقوا بالله، ورسوله، وصدقوا بالبعث {واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم بإيمان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ} يعني: ألحقناهم ذرياتهم. قرأ أبو عمرو: {وأتبعناهم} {أَلْحَقْنَا بِهِمْ} الثلاثة كلها بالألف. وقرأ نافع: اثنان بغير ألف، والآخر: بالألف. وقرأ ابن عامر الأول: بغير ألف. والآخران: بالألف. والباقون: كلها ألف. فمن قرأ: {اتبعناهم} معناه: ألحقناهم. يعني: الذين آمنوا، وجعلنا ذريتهم مؤمنين، ألحقنا بهم ذريتهم في الجنة في درجتهم. ومن قرأ: {ءامَنُواْ واتبعتهم} بغير ألف، يعني: ذريتهم معهم. ومن قرأ {ذرياتهم} بالألف، فهو جمع الذرية. ومن قرأ: بغير ألف، فهو عبارة عن الجنس، ويقع على الجماعة أيضاً. وقال مقاتل: معناه الذين أدركوا مع آبائهم، وعملوا خيراً في الجنة، ألحقنا بهم ذريتهم الصغار الذين لم يبلغوا العمل، فهم معهم في الجنة. ويقال: إن أحدهم إذا كان أسفل منه، يلحق بهم، لكي تقر عينه. وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يرفع الله المسلم ذريته وإن كانوا دونه في العمل، لتقر بهم عينه. ثم قال: {ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا ألتناهم مّنْ عَمَلِهِم مّن شَئ} يعني: ما نقصناهم من عمل الآباء إذا كانوا مع الأبناء، حتى يبلغ بهم ذريتهم، من غير أن ينقص من أجر أولئك شيئاً، ولا من ذريتهم. {كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} يعني: كل نفس مرتهنة بعملها يوم القيامة. ثم رجع إلى صفة المتقين في التقديم، وكرامتهم، قوله تعالى: {وأمددناهم بفاكهة} يعني: أعطيناهم من ألوان الفاكهة {وَلَحْمٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ} يعني: يتمنون. قرأ ابن كثير: {ألتناهم} بكسر اللام، وهي لغة لبعض العرب. واللغة الظاهرة: بالفتح، وهي من آلت يألت وهو النقصان. قوله عز وجل: {يتنازعون فِيهَا كَأْساً} يعني: يتعاطون في الجنة. تعطيهم الخدم قدح الشراب، ولا يكون كأساً إلا مع الشراب، {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا} يعني: لا باطل في الجنة {وَلاَ تَأْثِيمٌ} يعني: لا إثم في شرب الخمر. ويقال: {لا تَأْثِيمٌ} يعني: لا تكذيب فيما بينهم. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: {لا لَغْواً فِيهَا} بنصب الواو، {وَلاَ تَأْثِيماً} بنصب الميم. والباقون: بالضم مع التنوين. فمن قرأ: بالنصب، فهو على التبرئة. ومن قرأ: بالضم، فهو على معنى الخبر. يعني: ليس فيها لغو ولا تأثيم، كما قال: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات: 47]. ثم قال عز وجل: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} يعني: في الحسن، والبياض، مثل اللؤلؤ في الصدف لم تمسه الأيدي، ولم تره الأعين. وروى سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلاً قال: يا نبي الله هذا الخادم، فكيف المخدوم؟ فقال: والذي نفسي بيده، إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر، على سائر الكواكب. ثم قال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} يعني: يتحدثون، ويتساءلون في الجنة عن أحوالهم التي كانت في الدنيا. ثم يقول: صرت إلى هذه المنزلة الرفيعة. قوله تعالى: {قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ} يعني: في الدنيا {فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} يعني: خائفين من العذاب. ثم قال: {فَمَنَّ الله عَلَيْنَا} يعني: من علينا بالمغفرة، والرحمة. {ووقانا عَذَابَ السموم} يعني: دفع عنا عذاب النار. قوله عز وجل: {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ} يعني: في الدنيا ندعو الرب {إِنَّهُ هُوَ البر} الصادق في قوله، وفيما وعد لأوليائه. ويقال: {البر} بمعنى النار {الرحيم} قرأ نافع، والكسائي: أنه بالنصب. ومعناه: إنا كنا من قبل ندعوه بأنه هو البر. وقرأ الباقون: بالكسر على معنى الاستئناف. ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يعظ الناس ولا يبالي في قولهم.
{فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)} فقال عز وجل: {فَذَكّرْ} يعني: فعظ بالقرآن {فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ} يعني: برحمة ربك. ويقال: هو كقوله: ما أنت بحمد الله مجنون. وقال أبو سهل: متعظ بالقرآن، ولست أنت والحمد لله {بكاهن وَلاَ مَجْنُونٍ} ويقال: فذكر. يعني: ذكرهم بما أعتدنا للمؤمنين المتقين، وبما أعتدنا للضالين الكافرين {فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بكاهن وَلاَ مَجْنُونٍ} يعني: لست تقول بقول الكهنة، ولا تنطق إلا بالوحي. ثم قال: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ} يعني: أيقولون هو شاعر يأتي من قبل نفسه، وهو قول الوليد بن المغيرة، وأبي جهل، وأصحابهما. {نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون} يعني: أوجاع الموت، وحوادثه. قال قتادة: {رَيْبَ المنون} الموت. وقال مجاهد: {رَيْبَ المنون} حوادث الدهر. وقال القتبي: حوادث الدهر، وأوجاعه، ومصايبه. ويقال: إنهم كانوا يقولون: قد مات أبوه شاباً، وهم ينتظرون موته {قُلْ تَرَبَّصُواْ} يعني: انتظروا هلاكي {فَإِنّى مَعَكُمْ مّنَ المتربصين} وذكر في التفسير، أن الذين قالوا هكذا ماتوا كلهم قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أحلامهم بهذا} يعني: أتأمرهم عقولهم، وتدلهم على التكذيب، والإيذاء بمحمد صلى الله عليه وسلم. {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} يعني: بل هم قوم عاتون في معصية الله تعالى. {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} يعني: أيقولون أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقول من ذات نفسه. واللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به الزجر والوعيد. ثم قال: {بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ} يعني: لا يصدقون بالرَّسول، والكتاب، عناداً وحسداً منهم. قوله عز وجل: {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ} يعني: إن قلتم إن محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: من ذات نفسه، فأتوا بمثل هذا القرآن كما جاء به {إِن كَانُواْ صادقين} في قولهم. ثم قال: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَئ} يعني: من غير رب. كانوا هكذا خلقاً من غير شيء. ومعناه: كيف لا يعتبرون بأن الله تعالى خلقهم، فيوحدونه، ويعبدونه. ويقال: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَئ} يعني: لغير شيء. ومعناه: أخلقوا باطلاً لا يحاسبون، ولا يؤمرون، ولا ينهون. ثم قال: {أَمْ هُمُ الخالقون} يعني: أهم خلقوا الخلق؟ أم الله تعالى؟ ومعناه: أن الله تعالى خلق الخلق، وهو الذي يبعثهم يوم القيامة. ثم قال: {أَمْ خَلَقُواْ السموات والارض} يعني: بل الله تعالى خلقهم {بَل لاَّ يُوقِنُونَ} بتوحيد الله الذي خلقهما، أنه واحد لا شريك له. ثم قال {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ} يعني: مفاتيح رزق ربك. ويقال: مفاتيح ربك الرسالة، فيضعونها حيث شاؤوا، ولكن الله يختار من يشاء، كقولهم: {أَءُلْقِىَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [القمر: 25]. ثم قال: {أَمْ هُمُ المسيطرون} يعني: أهم المسلطون عليهم، يحملونهم حيث شاؤوا على الناس، فيجبرونهم بما شاؤوا. قرأ ابن كثير، وابن عامر، والكسائي، في إحدى الروايتين: {المسيطرون} بالسين. والباقون: بالصاد. وقرأ حمزة: {المزيطرون} بإشمام الزاء. وقال الزجاج: تسيطر علينا، وتصيطر. وأصله السين، وكل سين بعدها طاء، يجوز أن تقلب صاداً، مثل مسيطر، ويبسط. ثم قالوا: {المسيطرون أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} يعني: سبباً إلى السماء {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} يعني: يرتقون عليه، فيستمعون القول من رب العالمين {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بسلطان مُّبِينٍ} أي: بحجة بينة.
{أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)} ثم قال عز وجل: {أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون}. ثم بيّن جهلهم، وقلة أحلامهم، أنهم يجعلون لله ما يكرهون لأنفسهم. قال عز وجل: {أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً} ومعناه: أن الحجة واجبة عليهم من كل وجه، لأنك قد أتيتهم بالبيان والبرهان، ولم تسألهم على ذلك أجراً. فقال: {أَمْ تَسْئَلُهُمْ} يعني: أتطلب منهم {أَجْراً} بما تعلمهم من الأحكام، والشرائع. {فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} يعني: من أجل المغرم، يمتنعون عن الإيمان. يعني: لا حجة لهم في الامتناع، لأنك لا تسأل منهم أجراً، فيثقل عليهم لأجل الأجر. قوله عز وجل: {أَمْ عِندَهُمُ الغيب} يعني: عندهم الغيب بأن الله لا يبعثهم {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} يعني: أمعهم كتاب يكتبون بما شاؤوا؟ يعني: ما في اللوح المحفوظ، فهذا كله لفظ الاستفهام، والمراد به: الزجر. ثم قال عز وجل: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً} بل يريدون وعيداً بالنبي صلى الله عليه وسلم {فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون} يعني: بل هم المعذبون، الهالكون. قوله عز وجل: {أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله} يعني: ألهم خالق غير الله يخلق، ويرزق، ويمنعهم من عذابنا {سبحان الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} يعني: تنزيهاً لله تعالى عما يصفون من الشريك، والولد. ثم ذكر قسوة قلوبهم فقال: {وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السماء ساقطا} يعني: جانباً من السماء ساقطاً عليهم {يَقُولُواْ} يعني: لقالوا من تكذيبهم {سحاب مَّرْكُومٌ} يعني: متراكماً بعضه على بعض، لأنهم كانوا يقولون: لا نؤمن بك حتى تسقط علينا كسفاً. ثم قال الله تعالى: لو فعلنا ذلك، لم يؤمنوا، ولا ينفعهم من قسوة قلوبهم. ثم قال: {فَذَرْهُمْ} يعني: فتخل عنهم يا محمد {حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ} يعني: يعاينوا يومهم {الذى فِيهِ يُصْعَقُونَ} يعني: يموتون. ويقال: يعذبون. قرأ عاصم، وابن عامر، {يُصْعَقُونَ} بضم الياء والباقون. {يُصْعَقُونَ} بنصب الياء، وكلاهما واحد، وهما لغتان. ثم وصف حالهم في ذلك اليوم فقال: {يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} يعني: لا ينفعهم صنيعهم شيئاً {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} يعني: لا يمنعون مما نزل بهم من العذاب. ثم قال عز وجل: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} يعني: من قبل عذاب النار قد روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: عذاب القبر وقال معمر عن قتادة: قال: عذاب القبر في القرآن. ثم قرأ {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} ويقال {عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} يعني: القتل. ويقال: الشدائد، والعقوبات في الدنيا. {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} يعني: لا يصدقون بالعذاب. ثم عزى نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذاهم فقال: {واصبر لِحُكْمِ رَبّكَ} يعني: لما أمرك ربك، ونهاك عنه. ويقال: واصبر على تكذيبهم، وأذاهم. {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} يعني: فإنك بمنظر منا، والله تعالى يرى أحوالك، ولا يخفى عليه شيء. وقال الزجاج: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} بمعنى فإنك بحيث نراك، ونحفظك، ولا يصلون إلى مكرك. ويقال: نرى ما يصنع بك. {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ} يعني: صل بأمر ربك قبل طلوع الشمس. يعني: صلاة الفجر وقبل الغروب. يعني: صلاة العصر. {وَمِنَ اليل فَسَبّحْهُ} يعني: صل صلاة المغرب والعشاء ويقال: حين تقوم صلاة الفجر، والظهر، والعصر. ومعناه: صل صلاة النهار، وصلاة الليل. ويقال: {سَبِّحِ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ} يعني: قل سبحانك اللهم وبحمدك إذا قمت إلى الصلاة وهذا قول ربيع بن أنس. {وإدبار النجوم} يعني: ركعتي الفجر. وروى سعيد بن جبير، عن زاذان، عن عمر رضي الله عنه: لا صلاة بعد طلوع الفجر، إلا ركعتي الفجر، وهما إدبار النجوم. وروى أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي رضي الله عنه قال: {والركع السجود} الركعتان بعد المغرب، {وإدبار النجوم} الركعتان قبل الفجر. وروى وكيع عن ابن عباس أنه قال: بت ذات ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى ركعتي الفجر، ثم خرج إلى الصلاة. فقال ابن عباس: الركعتان اللتان قبل الفجر، {فِى النجوم} واللاتي بعد المغرب {والركع السجود} وفي الآية، دليل على أن تأخير صلاة الفجر أفضل، لأنه أمر بركعتي الفجر بعد ما أدبرت النجوم، وإنما أدبرت النجوم بعد ما أسفر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)} قوله تعالى: {والنجم إِذَا هوى} قال ابن عباس رضي الله عنه: أقسم الله تعالى بالقرآن، إذا نزل نجوماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاً بعد وقت. الآية، والآيتان، والسورة، والسورتان، وكان بين أوله وآخره إحدى وعشرون سنة. قال مجاهد: أقسم الله بالثريا إذا غابت، وسقطت. والعرب تسمي الثريا: نجماً. ويقال: أقسم بالكواكب المضيئة. ويقال: أقسم بجميع الكواكب. {مَا ضَلَّ صاحبكم} وذلك أن قريشاً قالوا له: قد تركت دين آبائك، وخرجت من الطريق؛ وتقول شيئاً من ذات نفسك فنزل: {والنجم إِذَا هوى} {مَا ضَلَّ صاحبكم} يعني: ما ترك دين أبيه إبراهيم {وَمَا غوى} يعني: لم يضل قوماً. والغاوي والضال واحد. يقال: الضلال: قبل البيان. والفساد؛ بعد البيان. قرأ حمزة والكسائي: {إِذَا هوى} {وَمَا غوى} كله بالإمالة في جميع السورة. وقرأ نافع وأبو عمرو: بين الإمالة، والفتح في جميع السورة. والباقون: بالتخفيف. وكل ذلك جائز في اللغة. ثم قال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} يعني: ما ينطق بهذا القرآن بهوى نفسه، والعرب تجعل عن مكان الباء. تقول: رميت عن القوس، أي: بالقوس {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} أي: بالهوى {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يوحى} يعني: ما هذا القرآن إلا وحي يوحى إليه {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} يعني: أتاه جبريل عليه السلام، وعلمه، وهو {شَدِيدُ القوى} وأصله في اللغة، من قوى الجبل، وهو طاقاته، والواحد قوة. ويقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} يعني: الله تعالى يعلمه بالوحي وهو ذو القوة المتين. قوله عز وجل: {ذُو مِرَّةٍ} يعني: ذي قوة. وأصل المرة: القتل، فيعبر به عن القوة. ومنه الحديث: «لاتَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيَ وَلا لِذِي مَرَّةٍ سَوِيٍ». ثم قال عز وجل: {فاستوى} يعني: جبريل عليه السلام. ويقال: {فاستوى} يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم {وَهُوَ بالافق الاعلى} يعني: من قبل مطلع الشمس جبريل، فرآه على صورته، وله جناحان، أحدهما بالمشرق، والآخر بالمغرب. {ثُمَّ دَنَا فتدلى} إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكل ما دنا منه، انتقص حتى إذا قرب منه مقدار قوسين، رآه كما في سائر الأوقات، حتى لا يشك جبريل {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} يعني: في القرب مقدار قوسين. وقال بعضهم: ليلة المعراج، دنا من العرش مقدار قوسين، وإنما ذكر القوسين لأن القرآن نزل بلغة العرب، والعرب تجعل مساحة الأشياء بالقوس. ويقال: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} يعني: قدر ذراعين، وإنما سمي الذراع قوساً، لأنه تقاس به الأشياء. {أَوْ أدنى} يعني: بل أدنى. ويقال: أو بمعنى واو العطف. يعني: مقدار قوسين أو أقرب من ذلك.
{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} قوله تعالى: {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى} يعني: أوحى الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه جبريل ما قرأ. ويقال: تكلم مع عبده ليلة المعراج ما تكلم. ويقال: أمر عبده بما أمر. ثم قال: {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} يعني: ما كذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ما رأى بصره من أمر ربه في رؤية جبريل عليه السلام. ويقال: في رؤية الله تعالى بقلبه. قال محمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل رأيت ربك: فقال: رأيته بفؤادي. ولم أره بعيني، قرأ الحسن ما كذَّب بتشديد الذال وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ومعناه لم يجعل الفؤاد رؤية العين كذباً. والباقون: بالتخفيف. يعني: ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم فيما رأى. ثم قال عز وجل: {أفتمارونه على مَا يرى} قرأ حمزة: {أفتمارونه} بنصب التاء، وجزم الميم بغير ألف. وهكذا روي عن ابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهما، ومعناه: أفتجحدونه فيما رأى. والباقون: {أفتمارونه} يعني: أفتجادلونه لأنه رأى من آيات ربه الكبرى. ثم قال: {وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أخرى} يعني: لقد رأى جبريل مرة أخرى. وروي عن كعب الأحبار أنه قال: رأى ربه مرة، فقال: إن الله كلم موسى مرتين، ورأى محمداً مرتين، فبلغ ذلك إلى عائشة رضي الله عنها، وعن أبيها، فقالت: قد اقشعر جلدي من هيبة هذا الكلام؛ فقيل لها: يا أم المؤمنين أليس يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أخرى} فقالت: أنا سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: رأيت جبريل نازلاً في الأفق على خلقته، وصورته. ويقال: {وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أخرى} يعني: رآه بفؤاده وأكثر المفسرين يقولون: إن المراد به جبريل. يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم لما رجع من عند ربه ليلة أسري به، رأى جبريل. {عِندَ سِدْرَةِ المنتهى} فقال مقاتل: السدرة هي شجرة طوبى، ولو أن رجلاً ركب نجيبه، وطاف على ساقها حتى أدركه الهرم، لما وصل إلى المكان الذي ركب منه، تحمل لأهل الجنة الحلي والحلل، وجميع ألوان الثمار. ويقال: هي شجرة غير شجرة طوبى، وهي شجرة عن يمين العرش فوق السماء السابعة، تخرج أنهار الجنة من أصل تلك الشجرة. وإنما سميت {سِدْرَةِ المنتهى} لأن أرواح المؤمنين تنتهي إليها. ويقال: أرواح الشهداء تنتهي إليها. ويقال: الملائكة ينتهون إليها، ولا يجاوزنها. ويقال: لأن علم كل واحد ينتهي إليها، ولا يتجاوزنها، ولا يدري ما فوق ذلك. وروي عن طلحة بن مطرف، عن مرة، عن عبد الله قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى، وإليها ينتهي ما عرف من تحتها، وإليها ينتهي ما هبط من فوقها، وهي النهاية التي ينتهي إليها من فوق، ومن تحت، ولا يتجاوز عن ذلك. ثم قال عز وجل: {عِندَهَا جَنَّةُ المأوى} وإنما سميت المأوى لأنه يأوي إليها أرواح الشهداء. قرأ سعد بن أبي وقاص، وعائشة رضي الله عنهما: {جَنَّةُ المأوى} بالتاء. وقيل لسعد: إن فلاناً يقرأ عندها {جَنَّةُ المأوى} بالهاء. قال سعد: ما له أجنه الله. وعن أبي العالية قال: سألني ابن عباس: كيف تقرأها يا أبي العالية؟ قال: قلت له جنة. قال: صدقت هي مثل قوله: {جنات المأوى}. وقراءة العامة {جَنَّةُ} وهي من جنات. ثم قال: {إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى} يعني: يغشاها من الملائكة ما يغشى. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل ماذا يغشى؟ قال: جراد من ذهب. ويقال: فراش من ذهب. وقال الحسن: يغشاها نور مثل الجراد من ذهب. ثم قال: {مَا زَاغَ البصر} يعني: ما مال، وما عدل بصر محمد صلى الله عليه وسلم عما رأى {وَمَا طغى} وما تعدى، وما جاوز إلى غيره. ويقال: {وَمَا طغى} يعني: وما ظلم صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما رأى تلك الليلة التي عرج به إلى السماء {لَقَدْ رأى مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى} وهو الرفرف الأخضر، قد غطى الأفق، فجلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وجاوز سدرة المنتهى. وقال ابن مسعود: رأى جبريل وله ستمائة جناح، وهم {مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر برؤية جبريل، تعجبوا منه، وأنكروا، فأخبر الله تعالى أنه قد رآه مرة أخرى، وأنه قد {لَقَدْ رأى مِنْ ءايات رَبّهِ}.
{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27)} ثم قال عز وجل: {أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى} قرأ مجاهد: {اللات} بتشديد التاء. يقال: كان رجلاً يلت السويق بالزيت، ويطعم الناس. وقال السدي: كان رجلاً يقوم على آلهتهم، ويلت السويق لهم. ويقال: كانت حجارة يعبدونها، وينزل عندها رجل يبيع السويق، ويلته، فسميت تلك الحجارة باللات. وقرأه العامة بغير تشديد. قال مقاتل: وإنما سمي {اللات والعزى} لأنهم قالوا: هكذا أسماء الملائكة، وهم بناته فنزل {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ والانثى} وقال قتادة: {اللات} كان لأهل الطائف، {والعزى} لقريش، ومناة للأنصار. ويقال: إن المشركين أرادوا أن يجعلوا من آلهتهم من أسماء الحسنى، فأرادوا أن يسموا الواحد منها الله، فجرى على لسانهم {اللات} وأرادوا أن يسموا الواحد منها العزيز، فجرى على لسانهم العزى، وأرادون أن يسموا الواحد منها المنان فجرى على لسانهم مناة. ويقال: إن العزى كانت نخلة بالطائف يعبدونها، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد حتى قطع تلك النخلة، فخرجت منها امرأة تجر شعرها على الأرض، فأتبعها بفأس، فقتلها، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «تِلْكَ العُزَّى قَتَلَهَا فَلاَ تُعْبَدُ العُزَّى أَبَداً». ويقال: أول الأصنام كانت اللات، ثم العزَّى ثم مناة. وهو قوله: {أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى} {ومناة الثالثة الاخرى} يعني: أفرأيتم عبادتها تنفعهم في الآخرة. ثم قال: {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الانثى} يعني بني مدلج، ويعبدون الملائكة، ويقولون: هم بناته فيشفعوا لنا {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} أي: جائرة معوجة. قرأ ابن كثير: بهمز الألف، والمد. والباقون: بغير همز، ومعناهما واحد، وهو اسم الصنم. وقرأ ابن كثير: {ضئزى} بالهمزة. والباقون: بغير همزة، ومعناهما واحد. يقال: ضازه، يضيزه، إذا نقصه حقه. يقال: ضزت في الحكم أي جرت. ثم قال: {ضيزى إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا} يعني: الأصنام، {أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ} بالتقليد {مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سلطان} يعني: من عذر، وحجة لكم بما تقولون {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} يعني: ما يعبدون، وما يتبعون إلا الظن، ولا تعرفونها أنها يقيناً آلهة، {وَمَا تَهْوَى الانفس} يعني: يتبعون ما تشتهي أنفسهم، وعبدوه، وتركوا دين الله، {وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الهدى} يعني: أتاهم الكتاب، والرسول، وبين لهم طريق الهدى. ثم قال عز وجل: {أَمْ للإنسان مَا تمنى} يعني: ما يتمنى بأن الملائكة تشفع له، فيكون الأمر بتمنيه، {فَلِلَّهِ الاخرة والاولى} يعني: ثواب الآخرة والأولى. ويقال: أهل السموات، وأهل الأرض كلهم عبيده ويقال: له نفاذ الأمر في الآخرة، والأولى. ويقال: جميع ما فيها يدل على وحدانيته. ثم قال: {وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السموات اَ تُغْنِى شفاعتهم شَيْئاً} يعني: لا تنقطع شفاعتهم، رداً لقولهم: إنهم يشفعون لنا. ثم استثنى فقال: {إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَاء ويرضى} يعني: من كان معه التوحيد، فيشفع له بإذن الله تعالى. ثم قال: {إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة} يعني: لا يصدقون بالبعث {لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ الانثى} باسم البنات، وفيه تنبيه للمؤمنين، لكي لا تقولوا مثل مقالتهم، وزجراً للكافرين عن تلك المقالة.
{وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)} قال عز وجل: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ} يعني: ليس لهم حجة على مقالتهم {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} يعني: ما يتبعون إلا الظن يعني: على غير يقين {وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئاً} يعني: لا يمنعهم من عذاب الله شيئاً {فَأَعْرَضَ مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا} يعني: اترك من أعرض عن القرآن، ولا يؤمن به. {وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا} يعني: لم يرد بعلمه الدار الآخرة، إنما يريد به منفعة الدنيا {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ العلم} يعني: غاية علمهم الحياة الدنيا. ويقال: ذلك منتهى علمهم، لا يعلمون من أمر الآخرة شيئاً، وهذا كقوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الاخرة غافلون}. ثم قال عز وجل: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} يعني: هو أعلم بمن ترك طريق الهدى {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى} يعني: من تمسك بدين الإسلام، ومعناه: فأعرض عنهم، ولا تعاقبهم، فإن الله عليم بعقوبة المشركين، وبثواب المؤمنين، وهذا قبل أن يؤمر بالقتال. ثم عظم نفسه بأنه غني عن عبادتهم فقال: {وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض} من الخلق {لِيَجْزِىَ الذين فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} يعني: ليعاقب في الآخرة الذين أشركوا، وعملوا المعاصي {وَيِجْزِى الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى} يعني: ويثيب الذين آمنوا، وأدوا الفرائض الخمسة بإحسانهم. ثم نعت المحسنين فقال: {الذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم والفواحش} قرأ حمزة والكسائي: {كَبِير الإثم} بلفظ الوحدان، والمراد به: الجنس. والباقون: {يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم} بلفظ الجماعة. قال بعضهم: {كبائر الإثم} يعني: الشرك بالله، {والفواحش} يعني: المعاصي. وقال بعضهم: {كبائر الإثم والفواحش} بمعنى واحد، لأن كل فاحشة كبيرة، وكل كبيرة فاحشة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «الْكَبَائِرُ أَرْبَعَةٌ: الشِّرْكُ بِالله، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ الله، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ الله، وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ الله». وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: الكبائر سبعة. فبلغ ذلك إلى عبد الله بن عباس، فقال: هي إلى السبعين أقرب. ويقال: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة. وقيل: كل ما أصر العبد عليه فهو كبيرة، كما روي عن بعضهم أنه قال: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار. قال: {إِلاَّ اللمم} وقال بعضهم: {اللمم} هو الصغائر من الذنوب. يعني: إذا اجتنبت الكبائر، يغفر الله صغار الذنوب من الصلاة إلى الصلاة، ومن الجمعة إلى الجمعة، وهو كقوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً} [النساء: 31] قال مقاتل: نزلت في شأن نبهان التمار، وذلك أن امرأة أتت لتشتري التمر، فقال لها: ادخلي الحانوت، فعانقها، وقبلها، فقالت المرأة: خنت أخاك ولم تصب حاجتك، فندم، وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى مسروق عن ابن مسعود: قال زنى العينين النظر، وزنى اليدين البطش، وزنى الرجلين المشي، وإنما يصدق ذلك الفرج، أو يكذبه. فإن تقدم كان زنى وإن تأخر كان لمماً. وقال عكرمة: {اللمم} النظر، وحديث النفس، ونحو ذلك. وروى طاوس، عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ الله كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَى. فَزِنَى الْعَيْنَيْنِ نَظَرُ النَّاظِرِ، وَزِنَى اللِّسَانِ النُّطْقُ، وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى، وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أوْ يُكَذِّبُهُ». وقال عبد الله بن الزبير: {اللمم} القبلة، واللمس باليد. وقال بعضهم: {اللمم} كل ذنب يتوب عنه ولا يصر عليه. وروى منصور، عن مجاهد قال: في قوله: {إِلاَّ اللمم} هو الرجل يذنب الذنب، ثم ينزع عنه. وروي عن أبي هريرة: قال: {اللمم} النكاح. وذكر ذلك لزيد بن أسلم فقال: صدق إنما اللمم لمم أهل الجاهلية. يقول الله تعالى في كتابه {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وَبَنَاتُ الاخ وَبَنَاتُ الاخت وأمهاتكم الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم مِّنَ الرضاعة وأمهات نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتى فِى حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وحلائل أَبْنَآئِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 23]. وروي عن الحسن أنه قال: {اللمم} هو أن يصيب النظرة من المرأة، والشربة من الخمر. ثم ينزع عنه. وروي عن مجاهد أنه قال: الذي يلم بالذنب، ثم يدعه. وقد قال الشاعر إنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا *** وَأيّ عَبْدِ للَّه لا أَلَمَّا وقال بعضهم: {إِلاَّ اللمم} ومعناه: ولا اللمم. ومعناه: أن تجتنبوا صغائر الذنوب، وكبائرها، كما قال القائل: وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير، والعيش. يعني: ولا اليعافير، ولا العيس. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إيَّاكُمْ وَالمُحَقَّرَاتِ مِنَ الذُّنُوبِ». وسئل زيد بن ثابت عن قوله: {إِلاَّ اللمم} قال: حرم الله الفواحش ما ظهر منها، وما بطن. ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ واسع المغفرة} يعني: واسع الفضل، غافر الذنوب للذين يتوبون. ويقال: معناه رحمته واسعة على الذين يجتنبون الكبائر. ثم قال: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} يعني: هو أعلم بحالكم منكم {إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الارض} يعني: إذ هو خلقكم من الأرض. يعني: خلق آدم من تراب، وأنتم من ذريته. {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ} يعني: كنتم صغاراً {فِى بُطُونِ أمهاتكم} كان هو أعلم بحالكم منكم في ذلك كله، {فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ} يعني: لا تبرؤوا أنفسكم من الذنوب، ولا تمدحوها. ويقال: {وَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ} يعني: لا يمدح بعضكم بعضاً. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا رَأَيْتُمُ المَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرابَ». والمدح على ثلاثة أوجه: أوله أن يمدحه في وجهه، فهو الذي نهي عنه. والثاني: أن يمدحه بغير حضرته، ويعلم أنه يبلغه، فهو أيضاً منهي عنه. والثالث: أن يمدحه في حال غيبته، وهو لا يبالي بلغه أو لم يبلغه، ويمدحه بما هو فيه، فلا بأس بهذا. ويقال: {فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ} يعني: لا تطهروا أنفسكم من العيوب. وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لَمْ يَكُنْ فِيهَا رَاحِلَةً». {بِمَنِ اتقى} يعني: من يستحق المدح، ومن لا يستحق المدح.
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)} ثم قال: {أَفَرَأَيْتَ الذى تولى} يعني: أعرض عن الحق، وهو الوليد بن المغيرة، ومن كان في مثل حاله {وأعطى قَلِيلاً} يعني: وأنفق قليلاً من ماله {وأكدى} يعني: هو أمسك عن النفقة. قال مقاتل: أنفق الوليد بن المغيرة على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نفقة قليلة، ثم انتهى عن ذلك. وقال القتبي: {وأكدى} أصله من كديه الدكية وهي الصلابة فيها. فإذا بلغها الحافر، يبس حفرها، فقطع الحفرة. يعني: تركها. فقيل: لمن طلب شيئاً، ولم يدرك أخره، وأعطى شيئاً، ولم يتم وأكدى. ثم قال عز وجل: {عِلْمُ الغيب فَهُوَ يرى أَمْ} يعني: أعنده علم الآخرة {فَهُوَ يرى} صنيعه. وقيل: يعلم ما في اللوح المحفوظ، فيرى صنيعه. {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ موسى} يعني: ألم يخبر بما بيّن الله تعالى في صحف موسى. قال بعضهم: {صُحُفِ موسى} يعني: التوراة. وقال بعضهم: هو كتاب أنزل عليه قبل التوراة {وإبراهيم الذى وفى} يعني: في كتاب إبراهيم {الذى وفى} يعني: بلغ الرسالة. ويقال: {وفى} بمعنى عمل ما أمر به. وذلك أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط قال لعثمان: إنك تنفق مالك، فعن قريب تفتقر. فقال عثمان: إن لي ذنوباً. فقال الوليد: ادفع إلي بعض المال حتى أدفع ذنوبك، فدفع إليه، فأنزل الله تعالى {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ موسى} يعني: ألم يبين الله تعالى في كتاب موسى، وكتاب إبراهيم، {أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى} يعني: لا تحمل نفس خطيئة نفس أخرى. ويقال: {وإبراهيم الذى وفى} يعني: بما ابتلاه الله تعالى بعشر كلمات. ويقال: بذبح الولد. ويقال: كان يصلي كل غداة أربع ركعات، صلاة الضحى فسماه وفياً. ثم قال عز وجل: {وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} يعني: ليس للإنسان في الآخرة إلا ما عمل في الدنيا من خير أو شر {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى} يعني: يرى ثواب عمله في الآخرة. قوله عز وجل {ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزاء الاوفى} يعني: يعطى ثوابه كاملاً {وَأَنَّ إلى رَبّكَ المنتهى} يعني: إليه ينتهي أعمال العباد، وإليه يرجع الخلق كلهم، فهذا كله في مصحف موسى، وإبراهيم.
{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)} ثم قال: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى} يعني: {أَضْحَكَ} أهل الجنة في الجنة. قال: {وأبكى} أهل النار في النار. ويقال: {أَضْحَكَ} في الدنيا أهل النعمة، {وأبكى} أهل الشدة، والمعصية. {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} يعني: يميت في الدنيا، ويحيي في الآخرة للبعث {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين} يعني: اللونين، والصنفين، {الذكر والانثى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى} يعني: تهراق في رحم الأنثى. وقال القتبي: {مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى} يعني: تقدر، وتخلق. ويقال: ما تدري ما يمني لك الماني. يعني: ما يقدر لك المقدر. ثم قال عز وجل: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الاخرى} يعني: البعث بعد الموت. يعني: ذلك إليه، وبيده، وهو قادر على ذلك، فاستدل عليهم بالفعل الآخر بالفعل الأول، أنه خلقهم في الابتداء من النطفة، وهو الذي يحييهم بعد الموت {وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى} يعني: حول وأعطى المال. {وأقنى} يعني: أفقر. ويقال: {أغنى} يعني: يعطي {وأقنى} يعني: يُرضي بما يُعطي. ويقال: {أغنى} نفسه عن الخلق {وأقنى} يعني: أفقر الخلق إلى نفسه. وروى السدي عن أبي صالح: {أغنى} بالمال، {وأقنى} يعني: بالقنية. وقال الضحاك: {أغنى} بالذهب، وبالفضة، والثياب، والمسكن، {وأقنى} بالإبل، والبقر، والغنم، والدواب. وقال عكرمة: {أغنى} يعني: أرضى {وأقنى} يعني: وأقنع. ثم قال: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى} يعني: وأن الله هو خالق الشعرى. قال ابن عباس: هو كوكب تعبده خزاعة يطلع بعد الجوزاء، يقول الله تعالى وأنا ربها، وأنا خلقتها، فاعبدوني. ثم خوفهم فقال عز وجل: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاولى} بالعذاب، وهم قوم هود عليه السلام، وكان بعدهم عاد آخر سواهم، فلهذا سماهم عاد الأُولى {وَثَمُودَ فَمَا أبقى} يعني: قوم صالح عليه السلام، فأهلكهم الله، وما بقي منهم أحد. قرأ نافع، وأبو عمرو {عَادٍ الاولى} بحذف الهمزة، وإدغام التنوين. والباقون: {عَاداً} بالتنوين الأولى، بالهمزة. وكلاهما جائز عند العرب. وقرأ حمزة، وعاصم، رواية حفص: {وَثَمُودُ} بغير تنوين. والباقون: {ثموداً} بالتنوين. قال أبو عبيد نقرأ بالتنوين مكان الألف الثانية في المصحف. ثم قال: {مُنتَصِرِينَ وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ} يعني: أهلكنا قوم نوح من قبل عاد وثمود {إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وأطغى} يعني: أشد في كفرهم، وطغيانهم، لأنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فدعاهم، فلم يجيبوا، وكان الآباء يوصون الأبناء بتكذيبه. ثم قال عز وجل: {والمؤتفكة أهوى} يعني: مدينة قوم لوط. وسماها مؤتفكة لأنها ائتفكت. أي: انقلبت {أهوى} أي: أسقط. ويقال: {المؤتفكة} يعني: المكذبة {والمؤتفكة أهوى} يعني: أهوى من السماء إلى الأرض، وذلك أن جبريل عليه السلام حيث قلع تلك المدائن، فرفعها إلى قريب من السماء، ثم قلبها، وأهواها إلى الأرض. {فغشاها مَا غشى} يعني: فغشاها من الحجارة {مَا غشى} كقوله: {فَجَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} [الحجر: 74]. ثم قال: {فَبِأَىّ الاء رَبّكَ تتمارى} يعني: بأي نعمة من نعماء ربك تتجاحد أيها الإنسان، بأنها ليست من الله تعالى. قوله عز وجل: {هذا نَذِيرٌ مّنَ النذر الاولى} يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم {نَّذِيرٍ} مثل {النذر الاولى} يعني: رسولاً مثل الرسل الأولى، ثم نوح، وهود، وصالح صلوات الله عليهم، وقد خوفهم الله ليحذروا معصيته، ويتبعوا ما أمرهم الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: {أَزِفَتِ الازفة} يعني: دنت القيامة {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ} يعني: ليس للساعة من دون الله {كَاشِفَةٌ} عن علم قيامها، وهذا كقوله: {يَسْألُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِى السماوات والارض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْألُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187].
{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)} ثم قال عز وجل: {أَفَمِنْ هذا الحديث تَعْجَبُونَ} يعني: من القرآن تعجبون تكذيباً {وَتَضْحَكُونَ} استهزاءً. {وَلاَ تَبْكُونَ} مما فيه من الوعد {وَأَنتُمْ سامدون} يعني: لاهين عن القرآن. روي عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: هو الغناء. كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا، ولعبوا، وهي بلغة أهل اليمن. وقال قتادة {سامدون} يعني: غافلون. ثم قال عز وجل: {فاسجدوا لِلَّهِ} يعني: صلوا لله. ويقال: اخضعوا لله {واعبدوا} يعني: أطيعوا. ويقال: {فاسجدوا لِلَّهِ} في الصلاة {واعبدوا} يعني: وحدوه. ويقال: هو سجدة التلاوة بعينها. وروي عن الشعبي أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في النجم، وسجد معه المؤمنون، والمشركون، والجن، والإنس.
|